{مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح:13].. صرخ بها نوح في قومه لما رآهم نافرين عنه،
جاحدين لربهم، مشركين به.. متعجبا من صنيعهم ومذكرا لهم
بأن أعظم توقير يجب أن يكون لِمَن أسْبَغ عليك نِعَمَه مذ كنت لا شيء ثم في طَوْر الـنُّطْفَة،
ولذا قال مُذَكِّرًا: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} [نوح:14] حينما لم تكن شيئا مَذكورا!
ثم تَوَالَتْ عليك مِنَنه، وتَتَابَعت عليك نِعَمه. وهو مثل قوله تعالى في سورة الانفطار:
{ياأيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك . في أي صورة ما شاء ركبك}.
هل تأمّلت أحوالك وأنت تنتقِل مِن طَور إلى طور، مِن غير حول ولا قوة لك ولا لأحدٍ مِن البَشَر.
قال ابن القيم عن الرَّحِم: "مَن الذي أوحى إليه أن يَتَضَايق عليك وأنت نُطْفة حتى لا تَفْسد هناك؟
وأوحى إليه أن يَتَّسِع لك ويَنْفَسِح حتى تَخْرُج منه سليما إلى أن خَرَجْتَ فَريدا وَحيدا ضَعيفا
لا قِشْرة ولا لِباس ولا مَتاع ولا مَال؟ أحْوج خَلْق الله وأضعفهم وأفقرهم،
فَصَرَف ذلك اللبن الذي كنت تَتَغَذَّى به في بَطن أمك إلى خِزَانتين مُعَلَّقَتين على صدرها!
تَحْمِل غذاءك على صدرها، كما حَمَلَتْك في بَطنها، ثم سَاقَه إلى تَيْنِك الخِزَانَتين ألْطَف
سَوْق على مَجَارٍ وطُرُقٍ قد تَهَيَّأت له، فلا يَزال وَاقِفًا في طُرُقه ومَجَارِيه حتى تَسْتَوفِي
ما في الخزانة، فَيَجْرِى ويَنْسَاق إليك، فهو بِئر لا تَنْقَطِع مادَّتها، ولا تَنْسَدّ طُرُقها،
يَسُوقها إليك في طُرُقٍ لا يَهْتَدِي إليها الطَّواف، ولا يَسْلكها الرِّجال، فمن رَقَّقَه لك، وصَفَّاه،
وأطَاب طَعْمه، وحَسَّن لَونه، وأحْكم طَبْخَه أعْدَل إحْكَام؟ لا بِالْحَارَّ الْمُؤذِي، ولا بالبَارِد الرَّدي
، ولا الْمُرّ ولا المالح، ولا الكَرِيه الرائحة، بل قَلَبَه إلى ضَرْب آخر مِن التغذية والمنفعة،
خِلاف ما كان في البطن،
فَوَافَاك في أشد أوقات الحاجة إليه على حين ظمأ شديد وجوع مفرط
جمع لك فيه بين الشراب والغذاء فحين تولد قد تلمظت وحركت شفتيك للرضاع
، فتجد الثدي الْمُعَلَّق كالإدَاوَة قد تَدَلَّى إليك، وأقبل بِدَرِّه عليك"